الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} "روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد. قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم. وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؛ فأنزل الله تعالى في ذلك {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل{ إلى قوله وقد مضى هذا في الفاتحة. وقال عباس بن مرداس: إن الإله بنى عليك محبة في خلقه ومحمدا سماكا فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء. والله أعلم. وكنت رحيما هاديا ومعلما ليَبْك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرْج آتيا
كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته يبكِّي ويدعو جده اليوم ناعيا فلِم أُخِّر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال: لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه. وقال ابن العربي: وهذا كلام ضعيف؛ لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول: اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا. وقيل: لم يصل عليه؛ لأنه لم يكن هناك إمام. وهذا ضعيف لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة. وقيل: صلى عليه الناس أفذاذا؛ لأنه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره. والله أعلم بصحة ذلك. قلت: في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى{أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم{ {أفإن مات{ شرط {أو قتل{ عطف عليه، والجواب {انقلبتم{. ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء؛ فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط. وقوله {انقلبتم على أعقابكم{ تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه. ومنه {نكص على عقبيه{. وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز. وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة. قوله تعالى{ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا{ بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه. {وسيجزي الله الشاكرين{، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وجاء {وسيجزي الله الشاكرين{ بعد قوله{فلن يضر الله شيئا{ فهو اتصال وعد بوعيد. {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} قوله تعالى{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا{ هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لا بد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له؛ لأن معنى {مؤجلا{ إلى أجل. ومعنى {بإذن الله{ بقضاء الله وقدره. و{كتابا{ نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا. وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله. ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش. والدليل على قوله{كتابا مؤجلا{ قوله تعالى{ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها{ يعني الغنيمة. نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة. وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة؛ والمعنى نؤته منها ما قسم له. وفي التنزيل {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} قوله تعالى{وكأين من نبي قُتِل معه ربيون كثير{ قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد؛ فانهزم جماعة من المسلمين. قال كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عز وجل{وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا{ الآية. و{كأين{ بمعنى كم. قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها. وقرأ ابن كثير {وكائن{ مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كيء فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس فقيل ياءَسُ؛ قال الشاعر: وقال آخر: وقال آخر: وقرأ ابن محيصن {وكَئِنْ{ مهموزا مقصورا مثل وكَعِن، وهو من كائن حذفت ألفه. وعنه أيضا {وكأْيِن{ مثل وكَعْيِن وهو مقلوب كيء المخفف. وقرأ الباقون {كأَيِّنْ{ بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر: وقال آخر: فجمع بين لغتين: كأَيِّنْ وكائِنْ، ولغة خامسة كَيْئِن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيِّىء مقلوب كأيِّن. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأَيِّن مثل كعين؛ تقول كأين رجلا لقيت؛ بنصب ما بعد كأين على التمييز. وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت؛ وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود. وبكأين تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع؛ قال ذو الرمة: قال النحاس: ووقف أبو عمرو {وكأي{ بغير نون؛ لأنه تنوين. وروى ذلك سَوْرَة بن المبارك عن الكسائي. ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم؛ قولان: الأول للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف - على هذا القول - على {قتل{ جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم. وفيه وجهان: أحدهما أن يكون {قتل{ واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله {قتل{ ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير؛ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة؛ أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلنا بعضهم. ويكون قوله {فما وهنوا{ راجعا إلى من بقي منهم. قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرأ الكوفيون وابن عامر {قاتل{ وهي قراءة ابن مسعود؛ واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قُتِل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم؛ فقاتل أعم وأمدح. و{الربيون{ بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي رضي الله عنه بضمها. وابن عباس بفتحها؛ ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة؛ عن مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم رُبِّيَ بضم الراء وكسرها؛ منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة. وقال عبدالله بن مسعود: الربيون الألوف الكثيرة. وقال ابن زيد: الربيون الأتباع. والأول أعرف في اللغة؛ ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: رِبّة ورُبّة. والرِّباب قبائل تجمعت. وقال أبان بن ثعلب: الرِّبي عشرة آلاف. وقال الحسن: هم العلماء الصُّبُر. ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير؛ قال حسان: وقال الزجاج: ها هنا قراءتان {رُبِّيُّون{ بضم الراء {ورِبِّيُّون{ بكسر الراء؛ أما الربيون (بالضم): الجماعات الكثيرة. ويقال: عشرة آلاف. قلت: وقد روي عن ابن عباس {رَبِّيُّون{ بفتح الراء منسوب إلى الرب. قال الخليل: الرِّبِّي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء. وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم. قوله تعالى{فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله{ {وهنوا{ أي ضعفوا، وقد تقدم. والوهن: انكسار الجد بالخوف. وقرأ الحسن وأبو السمال {وهنوا{ بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد. وهن الشيء يهن وهنا. وأوهنته أنا ووهنته ضعفته. والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارها. والوَهَن من الإبل: الكثيف. والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن. وأوهنا صرنا في تلك الساعة؛ أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قُتِل منهم، أي ما وهن باقيهم؛ فحذف المضاف. {وما ضعفوا{ أي عن عدوهم. {وما استكانوا{ أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع؛ وأصلها {اسْتَكَنوا{ على افتعلوا؛ فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا؛ والأول أشبه بمعنى الآية. وقرئ {فما وهنوا وما ضَعْفوا{ بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي {ضعفوا{ بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قُتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق. {والله يحب الصابرين{ يعني الصابرين على الجهاد. وقرأ بعضهم {وما كان قولهم{ بالرفع؛ جعل القول اسما لكان؛ فيكون معناه وما كان قولُهم إلا قولَهم{ربنا اغفر لنا ذنوبنا{ ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان. واسمها {إلا أن قالوا{. {ربنا اغفر لنا ذنوبنا{ يعني الصغائر {وإسرافنا{ يعني الكبائر. والإسراف: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد. {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} قوله تعالى{فآتاهم الله{ أي أعطاهم {ثواب الدنيا{، يعني النصر والظفر على عدوهم. {وحسن ثواب الآخرة{ يعني الجنة. وقرأ الجحدري {فأثابهم الله{ من الثواب. {والله يحب المحسنين{ تقدم. {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر طاعة الكافرين؛ يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه. وقيل: اليهود والنصارى. وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. {يردوكم على أعقابكم{ أي إلى الكفر. {فتنقلبوا خاسرين{ أي فترجعوا مغبونين. ثم قال{بل الله مولاكم{ أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه. وقرئ {بل الله{ بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم. {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} نظيره {وقذف في قلوبهم الرعب{. وقرأ ابن عامر والكسائي {الرعب{ بضم العين؛ وهما لغتان. والرعب: الخوف؛ يقال: رَعَبْته رُعْبا ورُعُبا، فهو مرعوب. ويجوز أن يكون الرعْب مصدرا، والرُّعُب الاسم. وأصله من الملء؛ يقال سيل راعب يملأ الوادي. ورعبت الحوض ملأته. والمعنى: سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا. وقرأ السختياني {سَيُلْقي{ بالياء، والباقون بنون العظمة. قال السدي وغيره: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا ! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به. والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام؛ قال الله تعالى ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله قوله تعالى{بما أشركوا بالله{ تعليل؛ أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم؛ فما للمصدر. وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. {ما لم ينزل به سلطانا{ حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا؛ ومن هذا قيل للوالي سلطان؛ لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال: إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم؛ قال امرؤ القيس: فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر؛ والسلطان من ذلك، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الِملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال{ومأواهم النار{ ثم ذمه فقال{وبئس مثوى الظالمين{ والمثوى: المكان الذي يقام فيه؛ يقال: ثَوَى يَثْوي ثَواء. والمأوى: كل مكان يرجع إليه شيء ليلا أو نهارا. {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة." و {تحسونهم{ معناه تقتلونهم وتستأصلونهم؛ قال الشاعر: وقال جرير: قال أبو عبيد: الحَسُّ الاستئصال بالقتل؛ يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. والبرد محسة للنبت. أي محرقة له ذاهبة به. وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء؛ قال رؤبة: وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة. فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل. {بإذنه{ بعلمه، أو بقضائه وأمره. {حتى إذا فشلتم{ أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب {حتى{ محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من {وعصيتم{. أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب {صرفكم عنهم{، و{ثم{ زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر: وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى قوله تعالى{ثم صرفكم عنهم ليبتليكم{ أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله{ثم صرفكم عنهم{ معنى. وقيل: معنى {صرفكم عنهم{ أي لم يكلفكم طلبهم. قوله تعالى{ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين{ أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} قوله{إذ{ متعلق بقوله{ولقد عفا عنكم{. وقراءة العامة {تصعدون{ بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل. وقرأ ابن محيصن وشبل {إذ يصعدون ولا يلوون{ بالياء فيهما. وقرأ الحسن {تَلُون{ بواو واحدة. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم {ولا تلوون{ بضم التاء؛ وهي لغة شاذة ذكرها النحاس. وقال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره. فالإصعاد: السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب. والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي؛ فيصح المعنى على قراءة {تُصْعِدون{ و{تَصْعَدون{. قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي. وقراءة أبي {إذ تصعدون في الوادي{. قال ابن عباس: صعدوا في أحد فرارا. فكلتا القراءتين صواب؛ كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. والله أعلم. قال القتبي والمبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه؛ فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع؛ قال الشاعر: وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه؛ يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة: وقال المفضل: صِعِد وأصْعَد وصَعَّد بمعنى واحد. ومعنى {تلوون{ تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا؛ فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. {على أحد{ يريد محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قاله الكلبي. {والرسول يدعوكم في أخراكم{ أي في آخركم؛ يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس. وفي البخاري {أُخْراكُم{ تأنيث آخركم: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا. قال ابن عباس وغيره: قلت: هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{فأثابكم غما بغم{ الغم في اللغة: التغطية. غممت الشيء غطيته. ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين. ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الأمر يغمني. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ صاح به الشيطان. وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل؛ فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم؛ فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا يعلن علينا) كما تقّدم. والباء في {بغم{ على هذا بمعنى على. وقيل: هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبّي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم. وقال الحسن{فأثابكم غما{ يوم أحد {بغم{ يوم بدر للمشركين. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. وقيل: وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم. قوله تعالى{لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون{ اللام متعلقة بقوله{ولقد عفا عنكم{ وقيل: هي متعلقة بقوله{فأثابكم غما بغم{ أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة. والأول أحسن. و{ما{ في قوله {ما أصابكم{ في موضع خفض. وقيل{لا{ صلة. أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مثل قوله {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور} قوله تعالى{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا{ الأمنة والأمن سواء. وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة بـ {أنزل{، و{نعاسا{ بدل منها. وقيل: نصب على المفعول له؛ كأنه قال: أنزل عليكم للأمنة نعاسا. وقرأ ابن محيصن {أمْنَة{ بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم؛ وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام." قوله تعالى{قل إن الأمر كله لله{ قرأ أبو عمرو ويعقوب {كله{ بالرفع على الابتداء، وخبره {لله{، والجملة خبر {إن{. وهو كقوله {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} قوله تعالى{إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا{ هذه الجملة هي خبر {إن الذين تولوا{. والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد؛ عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل. وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى {استزلهم الشيطان{ استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا. وهو معنى {ببعض ما كسبوا{ وقيل{استزلهم{ حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل: زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة. وقال الحسن{ما كسبوا{ قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم. وقيل: لم يكن الانهزام معصية؛ لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف؛ لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. قلت: وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في قلت: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة؛ وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة؛ فقال له آدم: (أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم) {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا{ يعني المنافقين. {وقالوا لإخوانهم{ يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا{ فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله{إذا ضربوا{ هو لما مضى؛ أي إذ ضربوا؛ لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان {الذين{ مبهما غير موقت، فوقع {إذا{ موقع {إذ{ كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى {ضربوا في الأرض{ سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. {أو كانوا غزى{ غزاة فقتلوا. والغُزَّى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، وأحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال: غَزِيّ جمع الغَزَاة. قال الشاعر: وروي عن الزهري أنه قرأه {غزى{ بالتخفيف. والمعزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشيء. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو: غَزَوِيُّ. قوله تعالى{ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم{ يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله {قالوا{ أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. {حسرة{ أي ندامة {في قلوبهم{. والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه؛ قال الشاعر: وقيل: هي متعلقة بمحذوف. والمعنى: لا تكونوا مثلهم {ليجعل الله ذلك{ القول {حسرة في قلوبهم{ لأنهم ظهر نفاقهم. وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم؛ فكان ذلك حسرة في قلوبهم. وقيل{ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم{ يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. قوله تعالى{والله يحي ويميت{ أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله. {والله بما تعملون بصير{ قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا. {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون، ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون} جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله{لمغفرة من الله ورحمة{ وكان الاستغناء بجواب القسم أولى؛ لأن له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلى مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل نمتم، من مات يموت. كقولك كان يكون، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله{لإلى الله تحشرون{ وعظ. وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم. {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} قوله{ما{ صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله وفظ على أعدائه يحذرونه فسطوته حتف ونائله جزل وقال آخر في المؤنث: ودنيا تجود على الجاهلين وهي على ذي النهى فظه وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر: ومعنى {لانفضوا{ لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا: وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. في قوله تعالى{فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر{ قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد: قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله قوله تعالى{وشاورهم في الأمر{ يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم: فأمر الله تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس{وشاورهم في بعض الأمر{ ولقد أحسن القائل: فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله: (شاورهم)و (توكل) وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال: وقد تقدم. وقال آخر: في أبيات. والشورى بركة. والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية. قوله تعالى{فإذا عزمت فتوكل على الله{ قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب؛ كما قال: ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء؛ والله تعالى يقول{وشاورهم في الأم فإذا عزمت {. فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد{فإذا عزمت{ بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال قوله تعالى{فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين{ التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله{أو تكلت{ قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها. واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} قوله تعالى{إن ينصركم الله فلا غالب لكم{ أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا. {وإن يخذلكم{ يترككم من معونته. {فمن ذا الذي ينصركم من بعده{ أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم؛ لأنه قال{وإن يخذلكم{ والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها؛ فهي خذول. قال طرفة: وقال أيضا: وقيل: هذا من المقلوب؛ لأنها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال: وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.
|